Friday, 12 March 2010

الحشيشة تعود إلى لبنان بقوة

الحشيشة تعود إلى لبنان بقوة والمزارعون يستعجلون تسويق المحصول قبل حل الأزمة السياسية

الفقر والحرمان سبب اللجوء الى الممنوعات


الفقر والحرمان سبب اللجوء الى الممنوعات


تاريخ منطقة البقاع المرتبط بالفقر والحرمان أدى بمعظم أهاليها إلى امتهان أي عمل يُكسبهم العيش، خصوصاً خلال الحرب اللبنانية. ومعظم هؤلاء المزارعين فقراء، لا تدرّ عليهم زراعة الحشيشة سوى ما يكفيهم للمأكل والملبس والمشرب، على ان المستفيد الرئيس من هذه الزراعة هم التجار لا المزارعون. لكن لماذا منطقة بعلبك الهرمل وحدها هي التي لجأت الى هذه الزراعات الممنوعة، في حين أن هناك مناطق أخرى كالجنوب والشوف الأعلى وعكار والبقاع الغربي وجرود جبيل لا تقل فقراً وإهمالاً عن مناطق بعلبك الهرمل، كما أن تربتها ومناخها ملائمان لهذا النوع من الزراعات؟ يشرح بعلبكي أن زراعة الحشيشة توسّعت في البقاع الشمالي حيث يسود النظام العشائري، « فهذه الزراعة كانت تحتاج إلى من يحصّنها في مواجهة الدولة، وكان النظام العشائري في جرود بعلبك الهرمل يستطيع أن يحميها. ويُقال، بحسب ما ذكر بعلبكي، أن الحشيشة دخلت مع الفرنسيين الى منطقتي رياق وأبلح في البقاع الأوسط حيث تمركز الجيش الفرنسي أيام الاحتلال. و «كان هناك خوف على انتشارها بين العسكر الفرنسي، فطوردت كمادة وكنبتة. وما كان يمكن في حينها أن تُستثمر إلا في المحيط العشائري البعيد والصعب على جنود الاحتلال».

ومنذ ذلك الحين أي في نحو عام 1920، توطّنت زراعة الحشيشة في هذا المحيط ودخلت الى حياة الجماعة وتحول نمط عيش المنتجين بحسب إنتاجهم. فصارت مناسبات المزارعين وأفراحهم وعطلهم وأعيادهم، تتوزع بحسب مدار دورة الانتاج. وما زال مزارعو الحشيشة يعيشون على أساس هذه الدورة.

تحرص سعدى، إحدى نساء بلدة اليمونة، على التزين وارتداء الثياب المتناسقة قبل ان تنزل إلى المخزن لتلقي نظرة على العمّال الذين يحضرون محصول 10 دونمات من الأرض المزروعة بالحشيشة والتي ورثها زوجها المريض عن أهله. تقول «نحن نزرعها ونحصدها ونصنعها، لنأكل ونلبس وندخل أطفالنا الى المدرسة». تشكو من التكاليف الباهظة التي تتطلبها الحشيشة، بدءاً من أجرة العمال الذين يزرعون ويحصدون، وصولاً إلى الجرارات الزراعية والشاحنات التي تنقل المحصول من السهل الى المخزن. لكن سعدى تعود وتحمد الله بعد أن تيبس النبتة وتحفظ في المخزن ليعاد تحويلها إلى بودرة ومعجون، بعد أن تبيت ليالي طوالاً في طقس بارد ورطب وتصبح جاهزة للاستعمال.

تسمح لنا المرأة الثلاثينية بالدخول الى المخزن، لكن من دون كاميرا. تقفل الباب بسرعة خشية معرفة الجيران بأنها تدل الغريب على مخابئ البلدة. «إذا لاحظ أحد أنكم هنا قد يُطلقون عليكم النار». وتروي كيف كاد أحد أهالي البلدة أن يُقتل بسبب تصويره حقول البلدة في آب (أغسطس) حين كانت نبتة الحشيشة ما زالت خضراء. وتحكي أن الشاب كان مسافراً منذ سنوات، وعندما أتى أراد أن يأخذ صوراً تذكارية للحقول الخضر بواسطة كاميرة فيديو. لمَحه أحد ابناء البلدة من بعيد، يجول في سيارته برفقة امرأة، بين الحقول. اتصل بأصدقائه المتواجدين في المكان لحراسة الحقول. فطوّقوا الرجل وسيارته فوراً. وإذا بالشاب المغترب يصرخ أنا حسين ابن أبو محمد، فاقتربوا منه وتحقّقوا من الأمر وأخلوا سبيله.

تقول سعدى إنها امرأة مؤمنة ولا ترى في زراعة الحشيشة ما يسيء الى الاسلام على أساس أنها لا تتعاطاها. لكن لا يوجد في القرآن الكريم آية أو سورة تذكر زراعة الحشيشة أو تعاطيها بالتحديد، لكن بحسب دار الإفتاء الاسلامي ومكتب العلامة الشيعي السيد محمد حسين فضل الله، هناك آيات وأحاديث شريفة تحرّم على المسلم التعاطي والإتجار والعمل في المواد المضرّة له ولغيره. وعلى سيبل المثال نص الآية التي تقول: «ولا تلقوا بأنفسكم في التهلكة»، والحديث النبوي الشريف: «لا ضرر ولا ضرار».

وتضيف سعدى: «منذ صغري والناس هنا يزرعونها، لم يكن لدينا مورد آخر. كان الناس يزرعون القمح والبطاطا والعدس والتفاح للحاجات الخاصة فقط». لكن سعدى وزوجها يرفضان رفضاً قاطعاً زراعة الأفيون، على رغم أنها تدرّ أرباحاً أكثر بكثير من الحشيشة. تقول: «غالبية الناس هنا لا تزرع الأفيون. لأن مضارها أكبر من الحشيشة. ثم ان الأفيون زراعة دخيلة على أهالي البقاع، وصلت إلينا من أفغانستان. على عكس الحشيشة التي نفهم في إنتاجها جيّداً».

سعدى التي تنتقل وأولادها الأربعة الى مدينة بعلبك في الشتاء، تاركة زوجها وحيداً في البلدة تتساءل: «لماذا لا تلتفت إلينا الدولة إلا من خلال الحشيشة؟». وهي تضطر كمعظم أهالي قريتها الفقراء المقيمين فيها إلى النزوح الى بعلبك في الشتاء، لعدم تمكنهم من العيش هناك حيث لا مستشفيات ولا مرافق عامة ولا مدارس ولا محال تجارية. إضافة إلى المناخ القارس والثلج الكثيف الذي قد يقطع أوصال البلدة في معظم أيام الشتاء.

ترتسم على وجوه المزارعين ملامح غضب متوارث من جيل إلى جيل، من الحكومات المتعاقبة. الوضع لم يتغيّر كثيراً من جيل سعدى إلى جيل أولادها. فما زالت تنعدم في اليمونة وغيرها من البلدات والقرى المجاورة، أية إجراءات رسمية خدماتية وتنموية وإنقاذية ومن ضمنها المدارس. ففي هذه البلدة التي يصل عدد سكانها الى 3000 نسمة، وينزح 80 في المئة من سكانها الى بيروت في فصل الشتاء (بحسب القائممقامية في المنطقة) هناك مدرسة رسمية واحدة صغيرة جداً، ومستوصفان شبه مقفلين.

يروي أبو جعفر الذي كان يملك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في جرود الهرمل، أن «الحشيشة كانت تدرّ على لبنان نحو خمسمئة مليون دولار أميركي سنوياً. أما الآن فمعظمنا لم يعد لديه ما يكفيه لتعليم أولاده وإطعامهم». لم يستسلم الرجل الخمسيني لأوامر الدولة كلياً. يقول: «كنا نحاول أن نزرع بعض الأراضي في الجرود العالية كل سنة، علّ الدولة تغضّ النظر أو تنسى»، ويضيف:»أحياناً كنا نفلح بحصد بعض الدونمات، وأحياناً كانت عناصر قوى الأمن الداخلي تقضي على الأخضر واليابس. ويبدو أن مفهوم النظام والقانون مرتبط في ذهنية سياسيينا بإتلاف الحشيشة فقط!».

تختلف حال الأهالي بين حيّ وآخر. منهم من استطاع أن يهاجر ويُحسّن أحوال بيته وعائلته، وغالبيتهم ممن ورثوا مهنة الزراعة عن أجدادهم لم يستطيعوا استبدال زراعة المخدرات ببدائل تردّ عنهم العوز. ويؤكد أبو علي أحد وجهاء بلدة مجدلون أن «نصف المزارعين الذين استبدلوا البطاطا والبندورة والذرة والشمندر السكري واللوبياء وغيرها بالحشيشة، خسروا ملايين الدولارات»، بسبب فشل برامج التسويق والتصدير. ويوضح أن «معظم المساحات الزراعية لا طرقات توصل أصحابها إليها، ولا تصلها مياه الري، إضافة إلى انعدام خطة تسويقية لتصريف المزروعات وبيعها أو تصديرها».

قرى المنطقة وبلداتها شبه فارغة من سكانها، وخصوصاً الشباب منهم الذين ضاقت بهم سبل العيش. هاجر من هاجر، والتحق قسم كبير منهم بالمقاومة الاسلامية - حزب الله، وانتقل قسم آخر إلى أحزمة البؤس في ضواحي بيروت، فأصبحت المنطقة مهجورة والأراضي، التي كانت تُدرّ ذهباً، بوراً. وتشير تقارير إلى أن هناك قرى غادر ما يقارب 70 في المئة من سكانها بسبب وقف زراعة المخدرات.


* أعد هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة «أريج» اعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية

No comments:

Post a Comment